الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: .قال القرطبي: فالختم على القلوب: عدم الوعي عن الحق سبحانه مفهوم مخاطباته والفكر في آياته. وعلى السمع. عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعُوا إلى وحدانيته. وعلى الأبصار: عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته؛ هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم. اهـ. .قال صاحب الميزان: ثم قال- واعلم أن الكفر كالإيمان وصف قابل للشدة والضعف فله مراتب مختلفة الآثار كالإيمان. اهـ. .قال الفخر: فالقسم الأول: وردت دلالة على حصول هذه الأشياء قال: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14] {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25] {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 87] {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون} [فصلت: 4] {لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} [يس: 70] {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} [النمل: 80] {أموات غَيْرُ أَحْيَاء} [النحل: 21] {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} [البقرة: 10]. والقسم الثاني: وردت دلالة على أنه لا مانع ألبتة {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ} [الأسراء: 94] {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} [الكهف: 29] {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] {لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} [آل عمران: 71] والقرآن مملوء من هذين القسمين، وصار كل قسم منهما متمسكًا لطائفة، فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض. أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها، وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعبًا وأشدها شغبًا، ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال لا، لأنهم نزهوه، فسئل عن أهل السنّة فقال لا، لأنهم عظموه، والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه، إلا أن أهل السنّة وقع نظرهم على العظمة فقالوا: ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه، والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح، وأقول: هاهنا سر آخر، وهو أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر، لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح، وهو نفي الصانع، ولو توقفت لزم الجبر. وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدرة. بل هاهنا سر آخر هو فوق الكل، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح، وهذا يقتضي الجبر، ونجد أيضًا تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزمًا بديهيًا بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة، فكأن هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية، وبحسب العلوم النظرية، وبحسب تعظيم الله تعالى نظرًا إلى قدرته وحكمته، وبحسب التوحيد والتنزيه وبحسب الدلائل السمعية، فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين. اهـ. قال الفخر: قال صاحب الكشاف: اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم، وفي حكم التغشية، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم، لقوله تعالى: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} [الجاثية: 23] ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم. اهـ. .قال ابن عاشور: والمراد من القلوب هنا الألباب والعقول، والعرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية، وتطلقه على الإدراك والعقل، ولا يكادون يطلقونه على غير ذلك بالنسبة للإنسان وذلك غالب كلامهم على الحيوان، وهو المراد هنا، ومقره الدماغ لا محالة ولكن القلب هو الذي يمده بالقوة التي بها عمل الإدراك. اهـ. .قال الفخر: .قال القرطبي: فإن قالوا: إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسميةُ والحكم والإخبارُ بأنهم لا يؤمنون، لا الفعل. قلنا: هذا فاسد، لأن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعًا مختومًا؛ لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم؛ ألا ترى أنه إذا قيل: فلان طبع الكتاب وختمه، كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعًا ومختومًا، لا التسمية والحكم. هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة، ولأن الأمة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم؛ كما قال تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]. وأجمعت الأمة على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع؛ فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنون؛ لأنهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم مختوم عليها وأنهم في ضلال لا يؤمنون؛ ويحكمون عليهم بذلك. فثبت أن الختم والطبع هو معنىً غير التسمية والحكم؛ وإنما هو معنىً يخلقه الله في القلب يمنع من الإيمان به؛ دليله قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الحجر: 12]. وقال: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25]. أي لئلا يفقهوه، وما كان مثله. اهـ. .قال الفخر: الجواب: إنما جمع القلوب والأبصار ووحد السمع لوجوه: أحدها: أنه وحد السمع، لأن لكل واحد منهم سمعًا واحدًا، كما يقال: أتاني برأس الكبشين، يعني رأس كل واحد منهما، كما وحد البطن في قوله: كلوا في بعض بطنكمو تعيشوا يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس، فإذا لم يؤمن كقولك. فرشهم وثوبهم وأنت تريد الجمع رفضوه. الثاني: أن السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع يقال: رجلان صوم، ورجال صوم، فروعي الأصل، يدل على ذلك جمع الأذن في قوله: {وَفِى ءاذانِنَا وَقْر} [فصلت: 5]. الثالث: أن نقدر مضافًا محذوفًا أي وعلى حواس سمعهم. الرابع: قال سيبويه: إنه وحد لفظ السمع إلا أنه ذكر ما قبلة وما بعده بلفظ الجمع، وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضًا، قال تعالى: {يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال} [المعارج: 37] قال الراعي: وإنما أراد جلودها، وقرأ ابن أبي عبلة وعلى أسماعهم. اهـ. .قال القرطبي: وقيل: إنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دل على أنه يراد به أسماع الجماعة؛ كما قال الشاعر: إنما يريد جلودها فوحّد؛ لأنه قد علم أنه لا يكون للجماعة جلد واحد. وقال آخر في مثله: يريد في حلوقكم؛ ومثله قول الآخر: وإنما يريد وجهين، فقال وجه تركيين؛ لأنه قد علم أنه لا يكون للاثنين وجه واحد؛ ومثله كثير جدًا. وقرئ: {وعلى أسماعهم} ويحتمل أن يكون المعنى وعلى مواضع سمعهم؛ لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. اهـ. .قال ابن عاشور: وقد تكون في إفراد السمع لطيفة روعيت من جملة بلاغة القرآن هي أن القلوب كانت متفاوتة واشتغالها بالتفكر في أمر الإيمان والدين مختلف باختلاف وضوح الأدلة، وبالكثرة والقلة وتتلقى أنواعًا كثيرة من الآيات فلكل عقل حظه من الإدراك، وكانت الأبصار أيضًا متفاوتة التعلق بالمرئيات التي فيها دلائل الوحدانية في الآفاق، وفي الأنفس التي فيها دلالة، فلكل بصر حظه من الالتفات إلى الآيات المعجزات والعبر والمواعظ، فلما اختلفت أنواع ما تتعلقان به جمعت. وأما الأسماع فإنما كانت تتعلق بسماع ما يُلقى إليها من القرآن فالجماعات إذا سمعوا القرآن سمعوه سماعًا متساويًا وإنما يتفاوتون في تدبره والتدبر من عمل العقول فلما اتحد تعلقها بالمسموعات جعلت سمعًا واحدًا. وإطلاق أسماء الجوارح والأعضاء إذا أريد به المجاز عن أعمالها ومصادرها جاز في إجرائه على غير المفرد إفراده وجمعه وقد اجتمعا هنا فأما الإطلاق حقيقة فلم يصح، قال الجاحظ في البيان: قال بعضهم لغلام له اشتر لي رأس كبشين فقيل له ذلك لا يكون، فقال: إذًا فرأسي كبش فزاد كلامه إحالة وفي الكشاف أنهم يقولون ذلك إذا أمن اللبس كقول الشاعر: وهو نظير ما قاله سيبويه في باب ما لُفظ به مما هو مثنى كما لفظ بالجمع من نحو قوله تعالى: {فقد ضغت قلوبكما} [التحريم: 4] ويقولون ضع رحالهما وإنما هما اثنان وهو خلاف كلام الجاحظ وقد يكون ما عده الجاحظ على القائل خطًا لأن مثل ذلك القائل لا يقصد المعاني الثانية فحمل كلامه على الخطأ لجهله بالعربية ولم يحمل على قصد لطيفة بلاغية بخلاف ما في البيت فضلًا عن الآية كقول علي رضي الله عنه لمن سأله حين مرت جنازة: من المتوفي بصيغة اسم الفاعل فقال له علي: الله لأنه علم أنه أخطأ أراد أن يقول المتوفَّى وإلا فإنه يصح أن يقال توفى فلان بالبناء للفاعل فهو متوف أي استوفى أجله. اهـ.
|